المشكلة الكبرى أنّ إنجيل يسوع المسيح مسلّم إلى أناس محاطين بالضعف بضرورة طبعهم البشريّ وكبار المقامات الروحيّة قلّة عزيزة. لكنّ الكنيسة في الدنيا لم تبلغ الملكوت ونحن نعرف كما قال الرسول أنّ "لنا هذا الكنز في آنية خزفيّة". أن تحفظ الوديعة سالمة حتّى مجيء الربّ يتطلّب سهراً طويلاً واحتمال مشقّات في التعزيات التي تنزل عليك من فوق. (المطران جورج خضر، النهار، 3 ت1 2009)
مضى زمن لم تشهد فيه بطريركيّة أنطاكية للروم الأرثوذكس حركة كثيفة إلى هذا الحدّ بخصوص انتخاب مطران. فهذه المرّة كلّ رعايا أنطاكية تتابع التطوّرات والتفاصيل والشائعات المتعلّة بانتخاب مطران على أبرشيّة طرابلس. السبب أنّ في هذه الانتخابات تتقاطع السياسة والدبلوماسيّة الكنسيّة واللاهوت وطموحات الحالمين! إضافة إلى ذلك تستحضر هذه الانتخابات إلى الساحة الكنسيّة ملفّات منسيّة وتُبرِز مفاهيم مغلوطة. وهذه لكثرتها لا تتّسع في مقال على مدوّنة لذلك ستشغلني بعضها.
لقد شغلني الموضوع منذ البداية لأنّ بعض التسريبات، الموثوقة المصادر، والتي بلغت أذنيّ دلّت على مساعٍ لا علاقة لها بالخُلُق الكنسيّ. لكنّني لم أعلّق على الموضوع إلا بعد أن سمعتُ في اليونان اهتماماً بالانتخابات وترقّباً لنتائجها، وأخيراً قرأت مقال الأستاذ غسان سعود في جريدة الأخبار. إذ ذاك قرّرت كتابة مقال يصف أهمّ المجريات لصفحة الأنباء الكنسيّة Amen.gr. هناك كتبت تقريراً أمّا على مدوّنتي فسأكتب هواجسي! عاتبني أحد أصدقاء الماضي، بعد قراءة المقال المذكور، على نشر شؤون الكنيسة. غير أنّني لم أكن لأنشر شيئاً لولا أنّ بعض الممارسات آن وقت فضحها ولو بتهذيب، هذا من جهة ومن جهة أُولى لم أكن لأنشر على موقع يونانيّ لو لم يستحوذ الموضوع اهتماماً في اليونان، فكتبت تقريراً حاولت فيه أن أذكر بعض ما تقوله المصادر من غير إهانة أحد. بأيّ حال على الكنيسة أن تحصّن نفسها من مشورات السياسيّين، كي لا أقول تدخّلهم، ومن بعض المتطبّعين بالأخلاق وما للأخلاق بعلاقة بهم. حتّى لا تعود انتخابات المطارنة تشكّل مادّة جذّابة للإعلام بسبب تشكّلها خلف الكواليس. وحدها الشفافية تغيّر علاقة الكنيسة بالإعلام فيعود الهدف الأوّل، وهو إطلاع المؤمنين على ما يفيدهم والتواصل معهم، ليحلّ محلّ الفضول الإعلاميّ...
هذا في العموم أمّا صلب الموضوع فينطوي على مشاكل شائكة تواجه المجمع الأنطاكيّ المقدّس. فمطرانيّة طرابلس لها موقعها المهمّ في عالم اليوم الذي اقتنع أخيراً أنّ الحياة حوار. ولذلك فمطران طرابلس سيُختار على أساس رغبته بالحوار مع الآخر، أيّ آخر، ومحبّته له. هذا المعيار صعب بسبب انتشار التعصّب في كلّ الأديان والطوائف، ولا يُستثنى من هذا أحد. بعض المرشّحين محبوبون من أتباعهم لتطرّفهم والبعض الآخر لانفتاحهم والمجمع سيختار مَن يعيش انفتاح الإنجيل.
كلّ الأسماء المطروحة كما قرأتها في مقال الأخبار وسمعتها من مصادر أخرى لا شكّ ساهمت بطريقة أو بأخرى في نشر الإيمان وإذكاء محبّة الله في القلوب. ولكنّ بعض الأسماء المطروحة لم تنجح في عائلاتها، أي أديارها في هذه الحال، فهل يمكن أن تنجح في توجيه مطرانيّة فيها صعوبات طرابلس؟ هل يقدر ذاك الذي استعصى عليه تدبير دير ببضعة رهبان أن يفلح في الإشراف على تعقيدات المطرانيّة، أيّ مطرانيّة؟ من جهة أخرى هناك بعض الأسماء التي لم يبقَ بيت في أنطاكية إلا وسمع بعملها البشاريّ وحسن سيرتها وفضيلتها ومع ذلك تبدو احتمالات نجاحها قليلة. أليس في هذا ما يثير الاستغراب؟
لاهوت الأسقفيّة يقضي بأن يكون المطران ابن أبرشيّته كنسيّاً، أي تابعاً لكهنوتها قبل سيامته أسقفاً. هذا المبدأ غير معمول به في كلّ العالم الأرثوذكسيّ إلاّ نادراً، بسبب بعض الصعوبات. لكن الأصل تطبيقه. وإن كان من ضرورة للتدبير فلماذا لا تكون الأفضليّة للكهنة الذين يتحدّرون من طرابلس ولكنّهم طاعةً للكنيسة انتقلوا إلى أبرشيّة أخرى ولم ينقطعوا عن كنيستهم المحلّيّة إلاّ إداريّاً إن جاز التعبير؟
في سياق ما سبق، يُحكَى عن سعي البعض لنقل مطران الأرجنتين إلى طرابلس التي يتحدّر منها. مجرّد التفكير بهذا الموضوع يبدو سورّياليّاً. فنقل المطران مرفوض صراحة من المجامع المسكونيّة والمحلّيّة وإن حصل تدبير، في أنطاكية مثالاً، في الماضي فلظروفٍ حتّمت ذلك. وهي لا تتوفّر الآن برأيي. ومن ثمّ هذه الفكرة تجعلني أتساءل إن كان الكهنة المتداوَلة أسماؤهم بلا أهليّة حتى تضطرّ الكنيسة إلى إبعاد مطران عن أبرشيّته قبل أن يبدأ بجني ثمر عمله الدؤوب في السنوات الماضية؟ لماذا يفكّر البعض بإتعاب أبرشيّة يكفيها تعباً أنّها في المهجر؟ ألأجل خطوة أقرب من الكرسيّ البطريركيّ؟ أهذا هو الخُلُق الكنسيّ؟ لا شكّ، إن صحّت أصلاً هذه الرواية، أنّ في طيّاتها إهانة لكلّ مؤمن، وأوّلاً لغبطة البطريرك. حين كنت طالباً في البلمند كان البعض يتحدّث بثقة عن أنّ بعض المطارنة يشتهون البطريركيّة، وأنا كنتُ وما زلت لا أرى عيباً في اشتهاء الكهنوت أو الأسقفيّة أو البطريركيّة. لكنّني لا أعتقد وفق ما تعلّمت من أساتذة البلمند انّ انتخابات المطارنة لعبة شطرنج تُنصَب فيها الكمائن للتقدّم خطوة ومَن يربح في النهاية يصير بطريركاً. وبالمناسبة لم أقتنع بالنظام الداخلي للبطريركيّة الذي لا يجيز الترشّح إلى البطريركيّة إلا لمَن له خمس سنوات مطراناً. فالترشّح يجب أن يكون مفتوحاً أصولاً أمام كلّ مؤمن أرثوذكسيّ يعرف الإيمان. بكلّ حال أنظمة البطريكيّة الأنطاكيّة حان الوقت لتتعدّل وفق ما وصلت إليه أبحاث الإكليسيولوجيا التي نفضت غبار السنين عن فهمنا لبنية الكنيسة، الأرثوذكسيّة أقلّه.
أستغرب كذلك، وبالأحرى أستهجن، الحال التي وصلنا إليها في البطريركيّة الأنطاكيّة حيث صار مرفوضاً، بصورة غير رسميّة، ترشّح كاهن سوريّ الجنسيّة لمطرانيّة في لبنان. ما المانع؟ إن كان سوريّاً ولكنه في عداد كهنة أبرشيّة لبنانيّة فما الذي يمنعه من أن يصير مطراناً عليها؟ منذ متى تتصرّف الكنيسة على أساس الجنسيّات؟ أيّ كاهن في أبرشيّته يحقّ له أن يترشّح إلى المطرانيّة سواء أكان من سوريا أم من العراق أم من الهاواي. الانتماء في الكنيسة انتماء إلى الكأس لا إلى القوميّات. أيُعقَل أنّ البعض يزيد فيطالب ببطريركيّة لبنانيّة؟ القوميّات سقطت وتخطّاها التنظير السياسيّ فهل نحتفظ بها في الكنيسة وهي لم تكن يوماً من لاهوتنا الذي لا يفرّق بين مؤمن ومؤمن؟
هذه الانتخابات تتخطّى طرابلس وتبلغ أبرشيّات أخرى ولا يُستثنى "العرش" البطريركيّ_ كما يراه الساعون_ لذلك فكلّ أبناء الكنيسة معنيّون بها ولهم حقّ التعبير عن رأيهم وهواجسهم، ويبقى لآباء المجمع المقدّس استلهام الله وتعاليم القدّيسين وتاريخ الكنيسة لاختيار الأنسب لحفظ الوديعة.
No comments:
Post a Comment